زمن المجاعة والأوبئة بتارودانت ـ الجزء الأول
صوت الحقيقة: علي هرماس
عنوان المدونة حددته طبيعة موضوع حديث مع الصورة الذي يفرض تسطير كلمة مجاعة كظاهرة طبيعية بصيغة المفرد أهم أسبابها الجفاف المتواصل والجدب الحاد والقحط الشديد ، بينما لازمتها الأوبئة كظاهرة اجتماعية مرضية بالضرورة الحتمية أو الاقتران الاستثنائي، نسطرها بصيغة الجمع لتنوع أشكال المرض الجارف، واختلاف طبيعة العدوى الوبائية، وتنوع أعراضها ودرجة حدتها واتساع رقعة انتشارها ومخلفاتها البشرية، أي أن ظاهرة السببية واحدة تتحدد في المجاعة ونتائج الكارثة البشرية متعددة تشخصها عدد من الأوبئة .
الوباء épidémie هو حالة مرضية تحدث عندما يصاب بمرض معين في وقت واحد خلق كثير ببلد ما أو رقعة جغرافية واسعة، ويقصد بالخلق الانسان أو الحيوان أو هما معا بما أن العدوى قد ينقلها الحيوان الى الانسان، كما أن الوباء لا يتخذ بالضرورة شكلا فتاكا، قد يكون عدوى اصابات طبيعية بسيطة بين كثافة سكانية لفترة زمنية محددة؛ أما اذا اتسعت الرقعة الجغرافية الموبوءة لتشمل العديد من الدول فيسمى الوباء جائحة pandémie وجمعها جوائح ، ويسمى انتشار عدوى المرض بين الحيوانات جارفة، مصطلح “ضربتو/ها جايحا” لازال يتداول على الألسن يفهم معناه دون ادراك أنه من صميم قاموس اللغة العربية الفصيحة، مثلا في المجال الطبيعي الفلاحي أهلكته جائحة الصقيع الشديد أو الحرارة المفرطة يعني أنها أتت على غلة الثمار وأثرت على الأغصان بشكل فضيع، ومنه يستعار التشبيه كناية مثلا عن الشخص المتهور في تصرفاته الغير المكترث لعواقب أفعاله.
في هذه المدونة سنتناول صفحة من بعض الأوبئة الاجتماعية القاتمة التي شهدتها مدينة تارودانت، نحصر زمنها تاريخيا في القرن العشرين، علما أن الظاهرة المرضية لها امتدادات زمنية متقطعة قبل هذا التاريخ، من ذلك ما أورده محمد بن الحسن الوزان الغرناطي الفاسي في “وصف أفريقيا” “أنه كان يظهر في بلاد البربر” يقصد الوباء، وما ذكره الناصري ابان فترة حكم المنصور السعدي نهاية القرن 16، أيضا ما سجله الطبيب الانجليزي William Lemprière الذي استقدمه السلطان محمد بن عبد الله لمداواة نجله مولاي سليمان نهاية القرن 18، بعدما داهمه مرض التراخوما والذي يخلف ضعف حاد في البصر قد يصل لدرجة العمى، وسجل مذكرات رحلة من طنجة مرورا بعدد من المدن وصولا الى تارودانت سنة 1789، ونظرا لأهمية المذكرات جغرافيا واجتماعيا، لم تتردد فرنسا في ترجمتها وتوظيفها سياسيا في احتلال المغرب.
من أجل توضيح أكثر لاستيعاب فكرة الموضوع الذي يهم صفحة من تاريخ تارودانت وفي آن يتعداها شموليا، لا يمكن الحديث عن العدوى الوبائية واعتبارها ظاهرة اجتماعية مع حصرها في رقعة جغرافية بحجم مدينة، والا أصبحنا بصدد الحديث عن حالة مرضية cas de maladie، لكن بالقدر الذي تنتشر العدوى المرضية ذاتيا، وتتوسع مجاليا مخلفة وفيات بالجملة، تتحول الى ظاهرة وبائية Phénomène épidémiologique والتي يفهم منها الشمولية الجغرافية التي تتعدى مجموعة مدن متقاربة أو مناطق متجاورة لتضم عددا من الأقطار أو الدول.
وباء التيفوس épidémie du typhus تسببه حشرات القمل والبراغيث والعث والقراديات، جميعها تتغدى على الدم الحيواني والانساني على السواء، بذلك تعتبر خزان دم متعفن، به تعمل على نقل العدوى من شخص مريض الى آخر سليم عن طريق اللسعات، مرض التيفوس لما يصل درجة الوبائية يحصد ما لا يقل عن ربع النسمة السكانية، وقد شهدت تارودانت ومعها باقي المغرب خلال القرن العشرين خمس موجات وبائية منه آخرها من 1940 الى 1942 وهي التي لازالت ذكراها المريرة عالقة بأذهان عدد من الرودانيين، فيما الموجة الأولى كانت الأطول من 1911 الى 1914 نجدها موثقة في مذكرة مسار الطريق يوم 22 فبراير1914 من قبل طبيب الاسعاف الأهلي بول شاتنيير دفين تارودانت، الذي قاوم المرض بعناد وجلد، رافضا مغادرة تارودانت، مكرسا جهده لمعالجة المرضى الرودانيين الموبوئين، الى أن جرفته هو الآخر العدوى في الموجة الوبائية الثانية 1926-1928 ودفن بمعترك مقاومتها مستشفى تارودانت.
وباء الطاعون épidémie de peste مرض يصيب في الأصل الحيوانات القارضة كالجردان، وتنتقل العدوى عن طريق البراغيت التي تعيش متطفلة عليها فتعمل على نقل الدم الملوث الى فأر سليم أو انسان بواسطة اللسع، وقد اشار اليه بول شاتنيير شهر يوليوز 1913 وسجل “انتشار الوباء بمنطقة السراغنة وأرجاء أخرى بالأطلس الكبير” وهي الموجة الأولى للطاعون ،أما الثانية فذكرها تقرير الطبيب الفرنسي Lucien Graux لما سجل تواجد الوباء في مناطق الجنوب الأقصى على حدود المنشقين عن السلطة الفرنسية – معلوم أن سلطات الحماية دخلت منطقة سوس 1914 لكن لم تتمكن من توطين أقدامها وبسط نفودها الا سنة 1934- وبعد بحث مقاربة تاريخية وردت في مؤلف “صورة المغرب في كتابات الأطباء الفرنسيين 1912-1956″توصل الباحث رضوان شعباني الى أن المقصود بالمناطق الموبوءة ناحية سوس التي شهدت موجة خطيرة من الطاعون سنتي 1920-1921، ثم موجهة ثالثة سنة 1939 سجلها غير هؤلاء ذكرت ان الوباء كان مهده في المغرب منطقتي الشاوية وسوس، وقد واجهته السلطات الصحية الفرنسية بمسوق د.د.تDDT.
وباء الجدري épidémie de variole، ثالث الأوبئة الفتاكة التي شهدتها تارودانت ومعها عدد من مناطق مغرب القرن العشرين، وقد سجل بول شاتنيير أن الوباء “كان يسبب كل سنة ضحايا كثيرين في صفوف الشباب والأطفال، مفرغا مناطق كاملة من سكانها” ص 11 من كتاب “في الأطلس الكبير المغربي” 1919، شهادة تاريخية من طبيب الأهالي تؤكد ما سبق ذكره كون هذه الأمراض الفتاكة لما تستوطن منطقة تجرف ما لا يقل عن ربع النسمة السكانية.
مرض الزهري وان كانت عدوى انتقاله بين الناس لم تسجل قط درجة الجائحة الوبائية بمقياس الكوارث البشرية، أهم أسباب انتشاره بتارودانت وسوس عامة كما سجلته دراسات الأطباء الفرنسيين المنتدبين لدى سلطات الحماية بالمغرب، هجرة العمال الى الشمال هروبا من البؤس قصد البحث عن لقمة العيش، أيضا شروط النظافة المتردية، وبعض الممارسات الخاصة وبطريقة بدائية كالختان والحلاقة والأكل في ماعون جماعي والشرب بنفس الاناء والتناوب على تدخين عشبة الكيف بغليون العود الأجوف؛ أما عن أول ماخور bordel بتارودانت فوق فندق الكتان قيسارية التيوتي حاليا، التجارة التي مارسها يهود تارودانت دون غيرهم، فمساهمته في تفشي العدوى ظلت محدودة نظرا لطابع السرية التي كانت تكتنفه، حتى 1936 تاريخ اعادة بناءه بشكله الحالي حسب ما هو مسجل فوق قوس مدخل فناء الرحبة، وتحول الماخور الى درب اسمكان/درب العفو وشاع خبر ارتياده نهارا حسب ما سجله الروائي موسى حميمو، حينها بدأ في أوساط الوقاية الصحية الفرنسية يسمع مرض Le chancre du syphilis، ويقال له مرض شانكر ترجمة حرفية تقابلية شعبية. لنختم بالقول أن هذه الممارسة بتارودانت كانت تتم في الأوساط المسلمة واليهودية والمسيحية المعمرة.
من أجل الحد من انتشار عدوى الأمراض المعدية الوبائية الجارفة، كانت السلطات الفرنسية تعمد الى عزل تنقل السكان بتارودانت بين الأحياء الأربعة/ أربع ربوعات وهي مشيخة القصبة- ومشيخة مجمع الأحباب- ومشيخة سيدي حساين جامع الكبير-أخيرا مشيخة ربع الزاويات، ذكر لي سي علال البرداوي في جلسة “كاس العصر” مع باقي المجموعة الرودانية بعرصة الحاج أحمد الحاتمي، أنه بعد ظهور احد الأمراض المعدية منتصف القرن الماضي، وضعت سلطات الحماية نقطة مراقبة بمدخل ربع سيدي حساين أمام جامع الكبير لتلقيح تلاميذ ثانوية ابن سليمان الروداني من جيلهم، ما دفع بالآباء لمنع ابنائهم من الذهاب للتعلم الدراسي الحرفي خوفا عليهم من الاصابة بالعدوى، لكن مدير الثانوية وقتها 1950 مسيو ريمون بيتو Pitault Raymond فهم المقاطعة على أنها اضراب مدبر عن الدراسة، فاتصل بالمراقب المدني الفرنسي بمكتب الشؤون الأهلية/ البيرو، الأخير استنفر “جرايا” les coursiers وهم من أفهموه واقع الأمر ونازلة الحال.
لجوء سلطات الحماية الفرنسية الى تقنين ومنع تنقل السكان بين الاحياء الأربعة بتارودانت بدافع تطويق الظاهرة الوبائية كإجراء صحي احترازي، نجد له سند قبل 14 قرنا في السنة النبوية باعتبار قسط كبير منها طب القلوب والأبدان، قال الرسول الأكرم (ص( ( اذا سَمِعْتُمُ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأرْضٍ، وأنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا) متفق عَلَيْهِ.
من جهة أخرى لما تتفشي عدوى مرض معدي ويصل درجة الجائحة الوبائية الجارفة، يضطر السكان بتارودانت الى اتخاذ اقصى الاحتياطات الانذارية من باب رد البال والاسترعاء، توخيا للوقاية البدنية وطلبا للسلامة الصحية العائلية، لدرجة أن الرجل قد يجد نفسه مجبرا لاقتناء مؤونة الكفاية لمدة أسابيع تفاديا للخروج من البيت، بدريعة أن تكرار فتح الباب من حين لآخر، يسمح بدخول “ريح” العدوى، فتسوطن الدار وتجتم على الأنفاس؛ ونضيف من شدة هلع الخوف وهول الكارثة لما تحل بالديار قهرا، عدد من السكان يعمدون الى اقتطاع غرفة من السكن العائلي لدفن وفياتهم واقفالها بالطوب من الداخل وفتح بابها الى الخارج، هذا تفسير واستنتاج وقفت عليه شهر فبراير 2017 لما كنت بصدد الاعداد الميداني لمدونة “المشرق بلد الأنبياء والمغرب بلد الزوايا والأولياء/الجزء الأول – أضرحة الأولياء- حتى لقب المستشرق الفرنسي بول باسكون المغرب “بلد الألف ولي”.
في رواية طريفة أشبه ما تكون بالنكتة رغم انها واقعة حال من الظاهرة الوبائية من عقد الأربعينات بتارودانت، استقيتها من صديقنا الكبير مولاي الكبير أنيس ابن حومة الرحبة القديمة زمن الأوبئة : هُلك مسكين يدعى محمد بدرب جدهم حومة سيدي وسيدي، لما أرادوا حمل النعش على الأكتاف الى مقبرة سيدي وسيدي، لم يجدوا غير يهودي عابرا الطريق ، تحت الإجبار والتهديد أذعن الأخير فشرع الثلاثة يرددون لا الاه الا الله محمد رسول الله، فيما اليهودي يقول لا الاه الا الله محمد يلاه ، فسأله السيد جنبه “فين غادي يلاه” أجابه اليهودي يلاه الى المقبرة، لأن الدمي يقر بتوحيد الألوهية ولا يشهد النبوة المحمـدية(ص).
مند غابر العصور ظلت الدواب هي الامكانية الوحيدة لنقل البضائع وتنقل الأشخاص، كما تعد تربية الماشية أحد أهم موارد الدخل ومصدر عيش عامة السكان، حسب الدكتور عثمان هناكا في كتاب ” تارودانت واولاد تايمة قطبين حضريين بسوس” ط 1995، الى حدود 1970 كان بتارودانت 3700 راس بقر و13000 راس غنم دون تعداد رؤوس الماعز، جل هذه الماشية كانت تجمع في حظائر جماعية بأمكنة معلومة، هي زرايب اولاد بنونة و زرايب باب الخميس، ويبقى مع ذلك جزء غير يسير من الماشية داخل الدور السكنية بالمدينة، يضاف اليه – طبعا ما قبل هذه الفترة- طبيعة ونمط البناء الذي يعتمد التراب المدوك، هذه المعطيات مترابطة تعد أحد العوامل المؤهلة لاحتضان مسببات جميع أنواع العدوى الوبائية السالفة الذكر، لهذا كثيرا ما راهنت استراتيجية الاحتلال الفرنسي اعتمادا على تقارير الاستخبار والاستكشاف، على كون المغربي ذاك الشخص الذي يجب التركيز على توعيته عوض محاربته، من هنا يمكن كسب وده وربح صداقته؛ من زاوية الرؤية هذه، تم تنزيل السياسة وتوطين الحماية أول الأمر، عبر بوابة عدد من الفرق الطبيبة المتنقلة، من بينها حملة الجنرال دولاموط الى منطقتي الحوز وسوس التي رافقها بول شاتنيير الملقب “الطبيب الشلح” سنة 1914، تلاه فرنسي آخر هو مسيو كيرلو kirlot الذي افتتح أول صيدلية عصرية بتارودانت فوق الحفرة بدرب الأندلس/ الساحة حاليا، ثم انتقل لطريق الحدادة قبالة مدخل صماط صانعي أجربة الدوم/ الحلايسية ، وأصبح ينافس الطب التقليدي “بزنيقة الدجاج/العيالات” الملاذ المتجذر عند الرودانيين والمغاربة عامة، لمعالجة معاناتهم الجسدية والنفسية والاجتماعية.
كل زمن وتارودانت بالف خير