عين الحقيقة : ظاهرة المطالبة بإسقاط الجنسية وعودة المستعمر. هل هي دعوة لعولمة الهوية الوطنية أم خيانة للوطن؟

بقلم مدير النشر : عبد الوافي حراق

0 443

انتشرت هذه الأيام على المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي ظاهرة اجتماعية رهيبة، تمثلت في نوعية الشعارات المرفوعة والعبارات المتداولة الخارجة عن المألوف. من مطالب ذات طابع اجتماعي ومجتمعي إلى مطالب لها بعد سياسي راديكالي صرف، ونبرة ناقمة ملؤها الحقد والكراهية للوطن الأم. بلغت لحد المطالبة بإسقاط الجنسية وعودة المستعمر الأجنبي والدعوة إلى فتح الحدود للهجرة وااللجوء، والمساس بهيبة الدولة ومعاتبة شخص الملك. وهو ما خلف لهيبا محموما على ألسنة وأذهان المغاربة، وطرح أسئلة متأججة بنيران التعجب والاستفهام والحيرة، وأحرقت وجدانهم فزعا ورهبة وتوثرا. حتى غدا رطبا على لسان كل مواطن أسئلة محرجة، من قبيل “فين غادة لبلاد؟ أش واقع في لبلاد؟ آش كيدور في لبلاد؟”

وبالنظر إلى الدوافع الكامنة والأسباب المحركة لرفع مثل هذه الشعارات الحاطة من قداسة الهوية والوطن، وهيبة الملك والدولة. فإنها لا تخرج في مجملها عن طبيعة المطالب الاجتماعية، المتداولة في كل المجتمعات العالمية. كالمطالبة بالتشغيل والتوظيف وتوفير السكن، وتوزيع الثروة بشكل عادل وضمان تكافؤ الفرص، ومحاربة الفساد والرشوة، وما إلى ذلك من المطالب الاجتماعية والسياسية.

ولعل هذه الفئة الرافضة والغاضبة من المجتمع المغربي، المطالبة بإسقاط الجنسية وعودة المستعمر، تؤسس لا محالة لنظام ثوري اجتماعي غير مسبوق عند الشعب المغربي ولدى شعوب العالم. يمكن توصيفه بالراديكالية المجتمعية المتطرفة، ذات النزعة الاجتماعية النرجيسية. التي لا ترى في الانتماء إلى الوطن والوطنية إلا ما يستجيب لمصلحتها الذاتية والبرغماتية.

وبديهيا، أن المواطن من حقه البحث عن حياة أفضل، في بلد آخر أوفر حظا، يضمن له العيش الكريم، من شغل وسكن وتعليم وصحة، وما إلى ذلك من الشروط الأساسية والحاجيات الجوهرية المرتبطة بالحياة العامة. فهل بالضرورة يكون مضطرا لمقايضة هذه الحقوق بالإخلال بواجب الانتماء والهوية والوطن؟ وهل يشفع له لمجرد انفصاله تعسفا عن الوظيفة، أو هدم منزله و”براكته” قسرا، أو عدم حصوله عمدا على وثيقة إدارية، المطالبة بإسقاط الجنسية والدعوة إلى عودة المستعمر الأجنبي لاغتصاب وطنه؟ ألا يدرك أن همجية المستعمر الغاشم أعظم وأقوى من طغيان بلده؟ ويكفي أن نستشهد بما فعله الاسبان بالمغاربة في الشمال والجنوب، وكذلك الفرنسيون في الجزائر والمغرب. وما قامت به أمريكا كدولة عظمى تدعي الديمقراطية والحقوق والرفاه بأبناء وبنات الشعبين العراقي والأفغاني، وما يعيشه قطاع غزة من حصار وتجويع وموت بطيئ. ولنا في التاريخ عبرا عديدة وأمثلة كثيرة في شأن ما يخلفه المستعمر المغتصب من دمار وإبادة للمجتمعات المغلوبة عن أمرها.

وإذا ما سلمنا جدلا، أن بعض الأنظمة الفاسدة تعتو استبدادا واضطهادا بشعوبها. فإن هذه الأخيرة تلجأ عرفا، إلى رفع لواء المقاومة والتصدي بالسبل المشروعة لجبروت أنظمتها الحاكمة، بالثورات الاجتماعية والاحتجاجات والإضرابات والمسيرات التنديدية، وقد تصل في بعض الحيان إلى الاعتصامات والعصيان المدني، والتضحية بالأرواح بالتصدي بصدري عاري لرصاص السلطات المستبدة، كما هو الحال في ثورة مصر واعتصام رابعة. أو تقديم أحد المواطنين نفسه قربانا للثورة بإحراق جسده، على غرار ثورة الياسمين التونسية. وهي أقصى درجات التعبير عن الاحتقان وأحدث انواع الاحتجاج، التي أنتجتها الحركات الاجتماعية المعاصرة. وعلى رأسها ثورات مصر تونس ولبيا وسوريا واليمن التي أطاحت برؤوس أنظمتها الحاكمة، والاحتجاجات السلمية التي قومت الاعوجاج الديمقراطي والسياسي، كما هو الحال بالبحرين والمغرب والأردن. إضافة إلى الحركات الثورية التي شهدتها بعض الدول الغربية، كحركة احتلوا وول ستريت الأمريكية، وثورة أدوات المطبخ في أيسلاندا، والحركة الطلابية في التشيلي، وثورة جذمورية “غاضبات في اسبانيا”، وحركة النجوم الخمس الإطالية. وغيرها.

إن الشعوب الأبية الحرة لم يشهد لها التاريخ يوما أن باعت أوطانها من أجل لقمة العيش، أو سلمت بانتزاع جنسيتها وهويتها مقابل رغد العيش. لأن الوطن والجنسية والانتماء عملة معصومة من المقايضة، ومنيعة بدم وروح مواطنيها الغير القابلة للمزايدة والبيع. وقد سجل التاريخ أنظمة فاسدة باعت شعوبها للمستعمر. ولنا مثال معاش في سوريا، التي تواطأت مع روسيا ضد شعبها. واليمن التي سلم حكامها أبناء الوطن فريسة لهمجية الإمارات والسعودية. في حين لم يشهد التاريخ أبدا، أن باعت الشعوب قسطا من أوطانها للعدو، أو سلمت شبرا من أراضيها للمستعمر. بل كانت تقاوم مقاومة شرسة بالروح والجسد، فداء لمسقط رأس أجدادها ومنبث أسلافها. سواء ضد المستعمر، أو حتى ضد أنظمتها الحاكمة المستبدة. ولم يسجل التاريخ عليها أن غيرت حرفا من هويتها الثقافية، أو بدلت انتماءها وأصولها الوطنية.

فالشعب السوري تعرض للتقتيل والإبادة من طرف نظامه الحاكم وحلفاءه، بالقنابل والذبابات والطائرات الحربية والبراميل الكيماوية. وتم تدمير مساكنه ومدنه، وقاوم الجوع والحصار وأمواج البحر ونيران الهجرة، وتشرد في عواصم العالم وشوارع أوروبا والعالم العربي. كل ذلك لم يقوى على النيل من جنسيته السورية ووطنيته الشامية. وظلت آماله العريضة وأحلامه الكبيرة في رحم هذه المعاناة، تتمثل في عودته إلى وطنه الأم.

والشعب اليمني المضطهد، الذي يعيش أسوء الحالات الإنسانية في العالم، و يئن تحت أقبية الحروب السياسية والاضطهادات الإثنية والصراعات القبلية. التقتيل والذبح والوأد منتشر في كل مكان، والجوع يفتك بالأرواح من كل الأعمار. لا مأوى ولا دواء، سوى تفشي الوباء والعيش في العراء. وبالرغم من ذلك، يقاوم البقاء ويتمسك بالانتماء، ولم يتنازل عن جنسيته اليمنية قيد شعرة، أوغرته عائدات البترول الإماراتية والسعودية، كما هو جشع حكام أنظمته.

والمغرب هذا الوطن الغالي، والشعب المغوار الصنديد، بطل الأمجاد والتاريخ، ذو الحضارة العتيقة الموغلة في القدم، ورمز المقاومة والنضال والهمم. هزم الاستعمار والأطماع الأجنبية، وقاوم التصدعات الداخلية، وواجه شطط عقلية السلطات المخزنية. حيث تصدى بنضالاته، زمن ما يسمى بسنوات الجمر والرصاص لبطش السلطة والاعتقالات السرية والاختفاء القصري. فكانت بالنسبة لهم المواطنة روحا للنماء، والأرض امتدادا للبقاء، والوطن هوية الانتماء.

رجالات ونساء قضوا بسبب نضالاتهم السياسية والاجتماعية، في سجون تازمامرت ودرب مولاي الشريف وقلعة أكدز، وغيرها من المعتقلات السرية. والذين مهما ما مورس عليهم من أشكال التعذيب والتنكيل والحط من كرامتهم، لم يجرؤوا على المزايدة على جنسيتهم ووطنيتهم. وثمة منهم من حكم عليه بالإعدام غيابيا والنفي خارج الوطن، أمثال الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد بن سعيد ايت إيدر وعمر بنجلون و مومن الديوري وغيرهم. وعلى الرغم من الظروف المتاحة لهم في المهجر، وصعوبة العودة إلى أرض الوطن، لم يفكروا يوما في الانقلاب على انتماءهم للوطن أو إسقاط جنسيتهم الوطنية أو معانقة اللجوء السياسي أو المطالبة بعودة المستعمر. وكيف يمكن لهم ذلك، وهم من طردوا المستعمر، وشكلوا إلى جانب المقاومة الوطنية وجيش التحرير جدارا بشريا سميكا منيعا لتحرير الوطن من قبضة الاستعمار.

فمحمد الحنصالي ومحمد الزرقطوني وابراهيم الرواداني وعبد الكريم الخطابي والشيخ ماء العينين وغيرهم من فرسان المقاومة الوطنية، لو علموا أن بعد موتهم سيأتي زمن، ترفع فيه بعض فئات الشعب أعلاما غير علم الوطن، و أصواتا مطالبة بعودة المستعمر الإسباني والفرنسي، والدعوة لإسقاط الجنسية المغربية، لما أهدروا قطرة من دمائهم وضحوا بأعمارهم في سبيل من لا وطنية لهم. من أجل من هم مستعدون للتفريط في وطنهم، والتنازل على جنسيتهم، مقابل وظيفة أو سكن أومطلب اجتماعي، لا يغني شيئا من تاريخ وحضارة أمة ووطن.

وتأسيسا على ما أسلفنا أعلاه، يتضح أن هذه الظاهرة الاجتماعية، دخيلة على المشهد الاحتجاجي والحراك الثوري ببلادنا، وغير مسبوقة حتى على المستوى العالمي. هذا العالم الذي قد يقبل بالمساس بالدين في منطوق ما يعتبره حرية المعتقد، أوقد يجرأ على توجيه النقد ومعاتبة حكامه، والمطالبة بمحاسبتهم وإعادة النظر في نظمهم الحاكمة. لكنه لم يسبق يوما أن ألفينا في هذا الكون حركات اجتماعية ومطالب شعبية، تجرؤ على إهانة الوطن والتراب، أو الطعن في الوطنية والانتماء، أو المزايدة على الجنسية والهوية.

وللأسف حدث هذا في وطننا، في حراك الريف وجرادة، حيث رفعت فيه المطالبة بعودة المستعمر الاسباني، احتجاجا على أوضاعهم الاجتماعية. وتنديد الصحفي رضا الليلي الذي من أجل فقدان وظيفته بالتلفزة المغربية انقلب ضد وطنه إلى عدو لوحدته الترابية، ولاجئ سياسي بالديار الفرنسية. وكذا الضابط مصطفى أديب الذي لمجرد عدم تمكنه من القضاء على الفساد العسكري ببلاده، تحول إلى مفسد لوطنه، يسعى لزعزعة أمنه واستقراره، ويهزأ بجنسيته المغربية بعد أن انسلخ منها.

والأدهى من ذلك، أن هذا الأسلوب في الاحتجاج الممزوج بالسياسي والنقابي، طال حتى بعض الطبقات الشعبية العامية، ذات الوضعيات الاجتماعية الصعبة، خاصة منها المعنية بالسكن الايل للسقوط والمنازل المصنفة ضمن البناء العشوائي ودور الصفيح. حيث اصبحنا نسمع اثناء مباشرة السلطات العمومية عمليات إعادة الإسكان وترحيل بعض المواطنين، أصواتا  تنادي بإسقاط الجنسية، والدعوة إلى عودة المستعمر الفرنسي، وفتح الحدود للهجرة واللجوء السياسي. وذلك مقابل الحصول على حقهم في الاستفادة من السكن الاجتماعي. علما أن هذه المطالب لا تخرج عن طبيعة القضايا الاجتماعية ذات الطابع المحلي الشأن، والتي في مجملها يحكمها السكان بأنفسهم، من خلال منتخبيهم في الجماعات الترابية او المؤسسات البرلمانية، وتخضع للقوانين الجاري بها العمل في البلاد. ومما ينذر بخطورة استفحال هذه الظاهرة هو استغلال حتى الأطفال الصغار، لرفع مثل هذه الشعارات المتطرفة، التي تقضي على الروح الوطنية في مهدها وبث الكراهية ضد الوطن في نفوس هذه الناشئة البريئة والمتبرئة من كل حركة سياسية كانت، أم اجتماعية التي تستهدف تحريضه على هويته وانتماءه ووطنيته.

فأين يمكن تصنيف طبيعة مسعى هذا النمط المبتكر في اسلوب التنديد والاحتجاج، الذي اجتاح الحراك الاجتماعي ببلادنا مؤخرا؟

وهل يمكن توصيف هذا السلوك بالحراك الاجتماعي البراغماتي المبني على المنفعة الذاتية، بدل المصلحة العليا للوطن؟

أم أنها حركة اجتماعية ذات بعد سياسي راديكالي متطرف، لا يقيم وزنا لقيم الروح الوطنية ومبادئ الهوية والانتماء للوطن؟

وهل هي ظاهرة اجتماعية تحركها دوافع سياسية، من أجل تحقيق أهداف انتخابوية؟

أم أنها ابتزاز للدولة وأسلوب جديد للضغط عليها، من أجل الوصول إلى مآرب اجتماعية معينة؟

وهل هي دعوة لعولمة المواطنة وتدويل الجنسية ومحو الهوية والانتماء؟

أم أنها خيانة للوطن وموت الروح الوطنية؟

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.